فصل: المسألة الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا جَاءَ الرَّجُلُ وَقَالَ: أَنَا فَقِيرٌ، أَوْ مِسْكِينٌ، أَوْ غَارِمٌ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ ابْنُ السَّبِيلِ، هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، أَمْ يُقَالُ لَهُ: أَثْبِتْ مَا تَقُولُ؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ}:

وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ الْمُكَاتَبُونَ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْعِتْقُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْتَاعَ الْإِمَامُ رَقِيقًا فَيُعْتِقَهُمْ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ.
وَعَنْ مَالِكٍ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: إحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مُكَاتِبًا، وَلَا فِي آخِرِ نَجْمٍ مِنْ نُجُومِهِ، وَلَوْ خَرَجَ بِهِ حُرًّا.
وَقَدْ قَالَ مَرَّةً: فَلِمَنْ يَكُونُ الْوَلَاءُ؟ وَقَالَ آخِرًا: مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَمَا بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ فَعَلُوا ذَلِكَ.
الثَّانِيَةُ: رَوَى عَنْهُ مُطَرِّفٌ أَنَّهُ يُعْطَى الْمُكَاتَبُونَ.
الثَّالِثَةُ: قَالَ: يَشْتَرِي مِنْ زَكَاتِهِ رَقَبَةً فَيُعْتِقُهَا، يَكُونُ وَلَاؤُهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
الرَّابِعَةُ: قَالَ مَالِكٌ: لَا آمُرُ أَحَدًا أَنْ يَشْتَرِيَ رَقَبَةً مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَيُعْتِقُهَا.
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شِرَاءُ الرِّقَابِ وَعِتْقُهَا، كَذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَيْثُ ذَكَرَ الرَّقَبَةَ فِي كِتَابِهِ إنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُكَاتَبِينَ لَذَكَرَهُمْ بِاسْمِهِمْ الْأَخَصِّ، فَلَمَّا عَدْلَ إلَى الرَّقَبَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْعِتْقَ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةٍ الْغَارِمِينَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الرِّقَابِ، وَرُبَّمَا دَخَلَ فِي الْمُكَاتَبِ بِالْعُمُومِ، وَلَكِنْ فِي آخِرِ نَجْمٍ يُعْتَقُ بِهِ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ، وَلَا حَرَجَ عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ تَخْلِيصَهُ مِنْ الرِّقِّ، وَفَكِّهِ مِنْ حَبْسِ الْمِلْكِ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا يَتَأَتَّى عَنْ الْوَلَاءِ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ تَخْلِيصُ الْمُكَاتَبِ مِنْ الرِّقِّ، وَفَكُّهُ مِنْ حَبْسِ الْمِلْكِ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ.

.المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: لَوْ اشْتَرَى الْإِمَامُ مِنْ رَجُلٍ أَبَاهُ وَأَخَذَ الْمَالَ لِيُعْتِقَهُ عَنْ نَفْسِهِ:

فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ؛ فَمَنَعَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَأَجَازَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ»، وَلِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلثَّمَنِ مُقَابِلٌ يُوَازِيهِ.

.المسألة الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: [في اخْتَلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي فَكِّ الْأُسَارَى مِنْهَا]:

وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَكِّ الْأُسَارَى مِنْهَا؛ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ فَكُّ الْمُسْلِمِ عَنْ رَقِّ الْمُسْلِمِ عِبَادَةً وَجَائِزًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي فَكِّ الْمُسْلِمِ عَنْ رَقِّ الْكَافِرِ وَذُلِّهِ.

.المسألة الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: [هَلْ نُعْتِقُ مِنْهَا بَعْضَ رَقَبَةٍ يَنْبَنِي عَلَيْهَا؟]

إذَا قُلْنَا: إنَّهُ يُعَانُ مِنْهَا الْمُكَاتَبُ، فَهَلْ نُعْتِقُ مِنْهَا بَعْضَ رَقَبَةٍ يَنْبَنِي عَلَيْهَا؟ فَإِذَا كَانَ نِصْفَ عَبْدٍ أَوْ عَشَرَةً يَكُونُ فِيهِ فَكُّهُ عَنْ الرِّقِّ بِمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ عِتْقِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ؛ ذَكَرَهُ مُطَرِّفٌ، وَكَذَلِكَ أَقُولُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.المسألة السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: [في الْوَلَاءِ بَيْنَ الْمُعْتَقَيْنِ]:

وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتَقَيْنِ كَالشَّرِيكَيْنِ.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ، فَإِنَّ فِيهِ تَفْرِيعًا كَثِيرًا.

.المسألة السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ}:

وَهُمْ الَّذِينَ رَكِبَهُمْ الدَّيْنُ، وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُمْ بِهِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ.
اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ ادَّانَ فِي سَفَاهَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْهَا، نَعَمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا إلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَإِنَّهُ إنْ أَخَذَهَا قَبْلَ التَّوْبَةِ عَادَ إلَى سَفَاهَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَكْبَرَ مِنْهَا، وَالدُّيُونُ وَأَصْنَافُهَا كَثِيرَةٌ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

.المسألة الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: [في قضاء دين الميت من الصدقات]:

فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا قُضِيَ مِنْهَا دَيْنُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْغَارِمِينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَا يُقْضَى.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا أَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؛ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ».

.المسألة التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}:

قَالَ مَالِكٌ: سُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ هَاهُنَا الْغَزْوُ مِنْ جُمْلَةِ سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إنَّهُ الْحَجُّ.
وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَجَّ مِنْ جُمْلَةِ السُّبُلِ مَعَ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ بِرٍّ، فَأُعْطِيَ مِنْهُ بِاسْمِ السَّبِيلِ، وَهَذَا يُحِلُّ عَقْدَ الْبَابِ، وَيَخْرُمُ قَانُونَ الشَّرِيعَةِ، وَيَنْثُرُ سِلْكَ النَّظَرِ، وَمَا جَاءَ قَطُّ بِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ أَثَرٌ.
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُعْطَى مِنْهَا الْفَقِيرُ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَيُعْطَى الْغَنِيُّ عِنْدَ مَالِكٍ بِوَصْفِ سَبِيلٍ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ، لَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي يُؤْثَرُ عَنْهُ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا إذَا كَانَ فَقِيرًا، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَلَا نَسْخَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فِي الْخَمْسِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِذِي الْقُرْبَى}؛ فَشَرَطَ فِي قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَقْرَ؛ وَحِينَئِذٍ يُعْطَوْنَ مِنْ الْخُمُسِ.
وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنْ الْحَوْزَةِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ سَبِيلِ الْغَزْوِ وَمَنْفَعَتِهِ.
«وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّدَقَةِ مِائَةَ نَاقَةٍ فِي نَازِلَةِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ إطْفَاءً لِلثَّائِرَةِ».

.المسألة الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَوْله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ}:

يُرِيدُ الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ فِي سَفَرِهِ، وَغَابَ عَنْ بَلَدِهِ وَمُسْتَقَرِّ مَالِهِ وَحَالِهِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا.
قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ: إذَا وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفُهُ فَلَا يُعْطَى.
وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُدْخِلَ تَحْتَ مِنَّةُ أَحَدٍ، وَقَدْ وَجَدَ مِنَّةَ اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ.

.المسألة الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا جَاءَ الرَّجُلُ وَقَالَ: أَنَا فَقِيرٌ، أَوْ مِسْكِينٌ، أَوْ غَارِمٌ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ ابْنُ السَّبِيلِ، هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، أَمْ يُقَالُ لَهُ: أَثْبِتْ مَا تَقُولُ؟

فَأَمَّا الدَّيْنُ فَلابد مِنْ أَنْ يَثْبُتَ.
وَأَمَّا سَائِرُ الصِّفَاتُ فَظَاهِرُ الْحَالِ يَشْهَدُ لَهَا وَيُكْتَفَى بِهِ فِيهَا.
ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إلَيْهِ قَوْمٌ ذَوُو حَاجَةٍ مُجْتَابِي النِّمَارِ، فَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ.
وَفِي حَدِيثٍ: أَبْرَصُ وَأَقْرَعُ وَأَعْمَى قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: «إنَّا عَلَى مَا تَرَى».
فَاكْتَفَى بِظَاهِرِ الْحَالِ.
وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ يُكْتَفَى بِغُرْبَتِهِ، وَظَاهِرِ حَالَتِهِ، وَكَوْنُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعْلُومٌ بِفِعْلِهِ لِذَلِكَ وَرُكُونِهِ فِيهِ.
وَإِنْ قَالَ: أَنَا مُكَاتَبٌ أَثْبَتَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ حَتَّى يُثْبِتَ الْحُرِّيَّةَ أَوْ سَبَبَهَا.
وَإِنْ ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى الْفَقْرِ عِيَالًا، فَقَالَ الْقَرَوِيُّونَ: يَكْشِفُ عَنْ ذَلِكَ إنْ قَدَرَ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبْرَصَ وَأَعْمَى وَأَقْرَعَ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَأَنَا ابْنُ سَبِيلٍ أَسْأَلُك بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ إثْبَاتَ السَّفَرِ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ؛ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي دَعْوَى كُلِّ شَيْءٍ غَائِبٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ.

.المسألة الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: [بِأَيِّ صِنْفٍ يَبْدَأُ الإمام في قسم الصدقات؟]

إذَا قُلْنَا: إنَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ مُسْتَحِقُّونَ، فَيَأْخُذُ كُلُّ أَحَدٍ حَقَّهُ وَهُوَ الثُّمُنُ، وَلَا مَسْأَلَةَ مَعَنَا.
وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْإِمَامَ يَجْتَهِدُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بِأَيِّ صِنْفٍ يَبْدَأُ.
فَأَمَّا الْعَامِلُونَ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ أُجْرَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَلَا كَلَامَ.
وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ أُجْرَتَهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ فَبِهِمْ نَبْدَأُ، فَنُعْطِيهِمْ الثُّمُنَ عَلَى قَوْلٍ، وَقَدْرَ أُجْرَتِهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ بِأَنْ يُعْطَى كُلُّ أَجِيرٍ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ مَأْثُورُ اللَّفْظِ صَحِيحُ الْمَعْنَى.
فَإِنْ أَخَذَ الْعَامِلُ حَقَّهُ فَلَا يَبْقَى صِنْفٌ يُتَرَجَّحُ فِيهِ إلَّا صِنْفَيْنِ؛ هُمَا سَبِيلُ اللَّهِ وَالْفُقَرَاءُ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ إنْ قُلْنَا: إنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفَانِ، فَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْفَقْرِ فَإِنَّ الْفَقْرَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى مَالِ الصَّدَقَةِ فِيمَا لابد مِنْهُ مِنْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ نَازِلَةٍ.
وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ صِنْفَانِ، وَلَا نُبَالِي بِمَا قَالَ النَّاسُ فِيهِمَا، وَهَا أَنَا ذَا أُرِيحُكُمْ مِنْهُ بِعَوْنِ اللَّهِ؛ فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْفَقِيرَ مَنْ لَهُ شَيْءٌ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ بِعَكْسِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى مَنْ لَهُ شَيْءٌ، فَهَذَا الْمَعْنَى سَاقِطٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَأَمَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ فَاَلَّذِي لَا يَسْأَلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ السَّائِلَ أَقْرَبُ إلَى التَّفَطُّنِ وَالْغِنَى، وَالْعِلْمُ بِهِ مِمَّنْ لَا يَسْأَلُ، وَلَا يَفْطِنُ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّمِنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَنَّ الْمُحْتَاجَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْكِتَابِيِّ.
وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْهِجْرَةِ وَالتَّقَرُّبِ بِذَهَابِ زَمَانِهِمَا، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ بِالْمَعْرِفَةِ وَكَفَانَا الْمَئُونَةُ.

.المسألة الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: [في القرابة بين المتصدق ومن يأخذ الزكاة]:

هَذِهِ الْأَوْصَافُ الَّتِي ذَكَرْنَا شَأْنَهَا فِي الْأَصْنَافِ الَّتِي قَدَّمْنَا بَيَانَهَا إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا فِيمَنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَصَدِّقِ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْقَرَابَةُ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ.
فَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبِ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ بِهِ».
يَعْنِي بِحُلِيِّهَا الَّذِي أَرَادَتْ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهِ.
وَفِي حَدِيثِ بِئْرِ حَاءٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَلْحَةَ: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ»، فَجَعَلَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ، وَبَنِي عَمِّهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي كُلِّ أُمٍّ وَبِنْتٍ مِنْ الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَإِنْ أَعْطَى الْإِمَامُ صَدَقَةَ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَزَوْجِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ جَمِيعِهِمْ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ.
وَأَمَّا إنْ تَنَاوَلَ هُوَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا بِحَالٍ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ فِي ذَلِكَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَرْضًا.
وَأَمَّا إنْ أَعْطَاهَا لِمَنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ.
قَالَ مَالِكٌ: خَوْفَ الْمَحْمَدَةِ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ: رَأَيْت مَالِكًا يَدْفَعُ زَكَاتَهُ لِأَقَارِبِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَهُوَ إمَامٌ عَظِيمٌ: قَالَ مَالِكٌ: أَفْضَلُ مَنْ وَضَعْت فِيهِ زَكَاتَك قَرَابَتُك الَّذِينَ لَا تَعُولُ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَوْجَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «لَك أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ».
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي إعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلزَّوْجَيْنِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ: إنَّ ذَلِكَ مِنْ مَنْعِ مَالِكٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ.
وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ إنْ كَانَ يَسْتَعِينُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا بِمَا يُعْطِيهِ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَيَصْرِفُ مَا يَأْخُذُ مِنْهَا مِنْ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ بِحَالٍ.
وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِحَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
قُلْنَا: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ هَاهُنَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ عَوْدِهِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَوْ كَانَتْ مُرَاعَاةً لَاسْتَوَى فِيهِ التَّطَوُّعُ وَالْفَرْضُ.